من السور د مڭازِين إلى سور المعڭازِين

الدكتور رشيد العفاقي

سُورُ المعڭازين حديثُ الناس في طنجة هذه الأيام، والسبب هو أنّ المكان شملته إصلاحات جديدة منحتهحُلّة موشية قشببتعبيرلسان العربأو لوك جديد (New Look) برطانة شباب هذا الزمان الفريد. وقد فُتحت ساحة المكان لعموم أهل طنجة وزوّارها. وتأتي شهرة هذا المكان إلى كونه يوجد في موضع انفراجة طبيعية بالجادة الرئيسية لوسط المدينة الجديدة، وعلى ارتفاع يُتيح للعابرين منه والواقفين فيه إطلالة بهية على البحر وجبل طارق والبلاد الأندلسية. لقد اتخذ المكان ما لا يقل عن أربعة أسماء منذ سنة 1906م تاريخ أوّل ظهور له في الخرائط القديمة لمدينة طنجة، فقد عُيِّنَ المكان باسم: روضة للّا فريجة، كجزء من أرض غرسة فراسكيطو الإشبيلي (Frasquito El Sevillano)، ثم باسم شارع پاسطور (Boulevard Pasteur) في العهد الدولي (1923-1956)، واستمر معروفا كذلك حتى في عهد الاستقلال ولكن بالصيغة الإسبانية الأكثر تداولا وهي: البوليبار (El Bolivar). وإذا كان اسم البوليبار يشمل كل الجادة الرئيسية لمدينة طنجة والتي تقتسمها ثلاثة أسماء (من ساحة الكويت (إيبيريا) حتى ساحة إبراهيم الروداني (النجمة)) وهي: شارع بلجيكا، وشارع پاسطور، وشارع محمد الخامس، إلّا أنّ موضع جلوس الناس على دكة تلك الانفراجة المطلة على البحر نُعِتَ باسم مخصوص هو: “سور المعڭازينعلى الأقل منذ أوائل عهد الاستقلال، ولم يستطع اسمساحة فاروأن ينتزعه منه على الرغم من أنه صار هو الاسم الرسمي الإداري منذ اتفاق التوأمة بين بلديتيْ مدينة طنجة (Tanger) المغربية ومدينة فارو (Faro) البرتغالية سنة 1985م.

وقبل نحو 7 أعوام (13 أكتوبر 2018) نشرت الجريدة الإلكترونيةطنجة 24″ (tanja24.com) مقالا بعنوان: “أصل تسميةسور المعڭازين” .. حقيقة صادمة تبرئ الطنجاويين من الكسل والخمول“. المقال موقّع باسم: يوسف بن عيسى. سرد فيه حكاية أصل هذه التسمية (سور المعڭازين)، انطلاقا من رواية جديدة استند فيها على طنجاوي عريق من أصول يهودية، يحمل الجنسية البلجيكية، ودرجةبروفيسور في الطب”. مكان الرواية إذن هو: بلجيكا، والزمن: العقد الأوّل من الألفية الثالثة تقريبا. وملخص كلامه حرفيا هوأنّ أصل التسمية يعود إلى الفترة الدولية لمدينة طنجة، حيث كان يوجد في ذلك العهد مختبر للصور القديمة بعقبةڤيلاسكيسغير بعيد عن ما يطلق عليه اليومسور المعڭازين”. وكان هذا المختبر تعلو بنايته لوحة تحمل اسمه بالفرنسية “Photo magazine”، وبالعربيةصور ماڭازين“. ومع مرور السنوات، نال مختبر الصور وليسالسورشهرة أطبقت الآفاق، حتى اتخذ الناس هذا الفضاء المحيط بهذا المختبر مكانا للمواعيد والتلاقي، كما كان يجتمع فيه المصورون والفوتوغرافيون في ذلك العهد لالتقاط صور للراغبين فيها، غير بعيد عن المختبر المشار إليه“. انتهت السردية الجديدة حول أصل تسمية سور المعڭازين.

الرواية الجديدة التي أوردها يوسف بن عيسى في مقاله تستند على شخص يتكلم من مخزون ذاكرته، ومن المعلوم أن الذاكرة مهما كانت قوية إلّا أنها مع مرور الوقت قد تضعف ويصيبها الوهن فتتداخل فيها الصُّوَر الحقيقية مع الصُّوَر المركّبة، وتمتزج فيها النواة الأصلية للوقائع بخيالات وظِلال صُور وأحداث مُجاورة سابقة أو لاحقة. نودّ التذكير أنّ العهد الدولي لمدينة طنجة انتهى رسميا بموجب بروطوكول موقّع يوم 5 يوليوز سنة 1956، وإن كانت تصفية النظام بشكل نهائي قد تطلبت بضعة أعوام بعد ذلك. وفي مسألة أصل تسميةسور المعڭازين، كشف البحث أنّ رواية اليهودي الطنجيّ التي نقلها إلينا السيد يوسف بن عيسى صحيحة، ولكن تتخللها بعض الأخطاء أو الأوهام، وربما كان سبب ذلك هو طول عهد الراوي بزمن الواقعة، ومرور أكثر من نصف قرن على ارتباطه المباشر بالأمكنة التي يتحدّث عنها. ولذلك رأيتُ من الواجب تصويب هذه السردية، وتمييز الصحيح فيها من الخطأ.

فأمّا مختبر “Photo magazine”، فهو محل كان له وجود حقيقي على أرض طنجة، ولكنه لم يكن مختبرا للصُّوَر (أو استوديو للتصوير الفوتوغرافي)، وإنما كان مَحَلًّا لبيع آلات معدات التصوير التي تنتجها الشركة النمساوية “Eumig” وهي شركة  ذات شهرة عالمية فى مجال إنتاج معدات الصوت والڨيديو، والماركة “Eumig” هي اختصار لـ“Elektrizitäts und Metallwaren Industrie Gesellschaft”، وتُترجم بـشركة صناعة الآلات الكهربائية والمعدنية، وقد ظهرت عام 1919 واستمرت في العمل حتى عام 1985، ثم في سنة 1989 حصلت الشركة الألمانية “Rothenberger GmbH” (مقرها في فرانكفورت) على حقوق “Eumig” لإنتاج الكاميرات وأنظمة الصوت والڨيديو، وبدأت تصنع آلات تحت رمز جديد هو: “EUMIG industry-tv GmbH”، ولا يزال في العاصمة النمساوية ڨيينا (Vienna) متحفا يضم المنتجات والآلات القديمة التي صنعتها هذه الشركة. وكان وكيل الشركة (أو الموزع) الوحيد لمنتوجاتها بطنجة هو محل “Photo magazine”.

لقد تبيّن لي بعد البحث أنّ “Photo magazine” هي شركة تجارية تتعامل مع الشركة المصنّعة “Eumig”، أو أنها منتدبَة من طرفها، وكانت تُصْدر نشرة إعلامية تحمل كذلك اسم “Photo magazine”، وفي أحد أعدادها لسنة 1956 صرّحت بأنّ منتجات شركة إيوميغ “Eumig” كانت مُدرجةً بالفعل في برنامج المبيعات بالمغرب قبل الحرب، وأنّها أخيرا تمكّنت من الشحن إلى طنجة، وأنّ وكلاءها وصلوا إلى المغرب وقضوا ثلاثة أيام في البحث عن مكاتب ومقرات في طنجة وتطوان.

استنادا إلى هذا المنشور يتبيّن أن منتجات شركة “Eumig” كانت ستصل إلى طنجة قبل أن تشتعل الحرب العالمية الثانية (1940)، ولكن يبدو أنّ الحرب عطّلت مشروع تصدير منتجات الشركة إلى هذه المدينة، وبالتالي وجود مكتب توزيع لها في طنجة، ولم تنبعث الفكرة لدى الشركة من جديد إلّا في سنة 1956، ولكنها لم تكد تحط الرحال في طنجة أواسط الخمسينيات حتى غادرتها، ولذلك لم تظهر لمحل “Photo magazine” الذي يوزّع منتجات شركة “Eumig” أية بيانات في الدليل التليفوني أو التجاري لمدينة طنجة في العهد الدولي وبداية عهد الاستقلال، والسبب هو أنّ المحل المذكور افتُتح سنة 1956 ثم أقفل بعد مدة قصيرة ولم نعد نَرَ له عينا أو أثرا، أي أنه لم يعمّر طويلا، وكأنه جاء ليمنح للمكان تسميته الشهيرة ثم يغلق أبوابه بعد ذلك مباشرة ويرحل. وحتى في جرائد طنجة الدولية التي كانت تزدحم في صفحاتها الدعاياتُ التجارية والإشهاراتُ وإعلاناتُ الشركات، لم نجد لهذا المحل (Photo magazine) إلّا إشهارا وحيدا نشرته جريدة “España” الطنجاوية في أحد أعدادها لسنة 1956م (هي الصورة المرفقة بهذا المقال).

وأخيرا، لم يكن موقع هذا المحل (Photo magazine) فيعقبة ڤيلاسكيسكما ورد في رواية اليهودي الطنجي، وإنما كان بشارع پاسطور، وتحديدا في البناية التي توجد بها مقهى پاريس، مُجَاوِرًا لها، وبأعلى البناية تبرز تلك اللوحة التي كتب عليها اسم: “Photo magazine”، وبالحروف العربية: “فوطو مڭازينكما يظهر ذلك واضحا في الصورة المرفقة بهذا المقال. قد يكون المحل التجاري بدأ يطبع أظرفة وفواتير عليها تارةفوطو مڭازينوتارةصُوَر مڭازين، والطنجاويون مولعون بالتلقيب، وبقلب الأسماء أيضا، ولهم في ذلك ابتكارات طريفة، فلا غرابة أن تتحولصُوَر مڭازينعندهم إلىسُور المعڭازينبسبب ذلك التقارب اللفظي في الوصف (مڭازين/ معڭازين) والمرتبط بالجِوار المكاني بين محل لبيع آليات التصوير (الصور)، وموضع جلوس العاجزين المتكئين على (السور) وهم شلل من الشباب الطنجي زَادُهُم النكات والمزاح وتدخين السجائر وإطلالة على البحر.

قد لا يكون هذا بعيدا عن الحقيقة، ولكني أرجّح أنّ التحوير لم يشمل إلّا القسم الثاني من التسمية التي أُطلقت على المكان وأعني: (مڭازين/ الذي تحوّل إلى معڭازين)، وأنّ الثابت هوالسوروليسالصور، لا سيما وقد عرفنا أنّ المحل المعني لم يكن محل تصوير حتى وإن كان يحمل اسمفوطو” (Photo). وبالتالي، فالصحيح عندي في هذه المسألة هو أنّ السُّور الداعم الذي بُني لوقف أي انجراف محتمل لطبقة الأتربة التي تُشكّل قاعدة شارع باسطور في موضع الانفراجة المذكورة أصبح ملتقى بعض أهل طنجة، ولمّا كان السُّور مجاورا للمحل الذي  تعلوه شارةمڭازين، أصبح موضع الملتقى والجلوس تبعا لذلك لا يُعرف إلّا بـالسور دْ مڭازين، وبعض المُسِنِّين من قُدماء أهل طنجة يعقلون هذه التسمية، وأكّدوا لنا أنّ أفواه الطنجاويين تداولتها فترة من الزمن قبل أن يتحوّل اسم الموضع لاحقا إلى سور المعڭازين.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى